السبت، سبتمبر ١٢، ٢٠٠٩

القطة البيضاء

قطة بيضاء من قطط البيوت.

تقضى حاجتها فى رملٍ معالجٍ و تأكل الأكل المعلب.

تقف على حوض أبيض مكتوب عليه "القياس المثالى" وتمروح لسانها الأحمر على سرسوب ماء من الصنبور الفضى لتشرب.

تجرى خلف كرياتٍ من فضةِ أغلفةِ الحلوى وفقاعات الصابون وتلعبك الخيط وتلعب.

تخاف الفئران وخروشة الأكياس القادمة من السوبر ماركت وأقدامَ الغرباء وتهرب.

تنظر ببلاهة إلى بالونات الهليوم التى تهوى من الأرض إلى السقف فى أعياد الميلاد وتطارد المؤشر على شاشة الويندوز وتزوم للعصافير والذباب وآباء الدقيق وتزحف هازةً ردفيها استعداداً للانقضاض المباغت على الهدف المتحرك ... لكن السلامة لأعدائها أقرب.

تجلس مستمتعة على حقيبة جلدية سوداء خرج منها عودٌ يسافر بعازفه ومستمعيه من عشرينيات القرن العشرين إلى سبعينياته ماراّ بالإذاعة المصرية ومدرجات الجامعة ومدينة الرحاب ثم إلى الثقب الأسود.



فى يوم من أيام الشتاء دق جرس الباب ورأيتها على صدر أمها التى ناولتها لى وقالت: "أعطها حناناً فهى خائفة" فحملتُ جسداً دافئاً مرتعشاً بيدين باردتين مرتعشتين ووضعتها على السجادة الحمراء فخطت خطوتين ثم التفتت وقالت: "هل كتبت قصيدة فى هجاء جنسنا" فقلت مبتسماً: "نعم" قالت: "ستحبنى وستبكى كالأطفال. مسكين أنت أيها الرجل المعذب".



ها هى الآن أمامى تحت قدمىّ تلهث كالكلب وينقبض جسدها ليدفع أكياس الأجنة من أحشائها وتنظر لى نظرة زائغة ومتعبة ... – "أتريدين المساعدة .. أنا لا أستطيع إلا أن أمسد رقبتك وأربت على ظهرك وأطلب النجدة بالجوال".



تأتى قريبتنا لتخرج الجنين الأول ميتاً.



تصرخ صرخة عظيمة وتبخ مشهرة مخالبها فى وجه الممرض الذى أعطاها حقنة إحماء الطلق قائلة: "لا تنسوا أننى قطة".

ها هى تحت رحمة المساعدين الذين يحلقون شعرها استعداداً للقيصرية.

قطة بيضاء من قطط البيوت ممدة على طاولة العمليات تتنفس فى موت البنج والعود البلاستيكى فى فمها يباعد بين الفكين والكانيولا مثبتة فى رسغها ومقص الجراح ومشرطه ويمناه ويسراه المنزلقتان فى قفازين مطاطين يعملون جميعاً فى إخراج القطيطات من بطن مخدرة.



قطيطة من الأربع نزلت ميتة.



لماذا أخجل من دموعى الآن.

لماذا أهرب ببكائى من أمام ابنتى وأمشى فى دوائر حول العيادة.

هل لاحظ بواب العمارة المجاورة وأسرته الذين يجلسون أمام المدخل أننى أبكى من أجل قطة.

هل عرفت قطط الشارع أننى أبكى من أجل قطة.

هل ابتسم صاحب الكشك على ناصية الحديقة وهل غضب راكبو الميكروباص والواقفون فى طوابير العيش وحاملو جراكن المياه وجنود الأمن المركزى الغلابة وآلاف المرضى فى المستشفيات الحكومية لأننى أبكى من أجل قطة.



قطة بيضاء مدللة اكتشفتُ فجأة أننى مسئول عنها وأننى أحبها .. وأبكى .. كما بشرتنى هى فى أول لقاء بيننا .. أبكى اعترافاً بحبها .. هل اعترف أحدكم بشىء ولم يبكِ .. بكاء الضعف والخجل .. وبكاء الراحة والأمل.



قال لى الطبيب: "سأستأصل المبيضين والرحم" فقلت مندفعاً: "لا .. لا أستطيع أن أقرر لها مصيراً لا تعرفه" فقال: "كما تريد" قلت: "كما تريد هى".



هل أحببت قطة لا تحبنى .. أم أحببت إنساناً زرعته أنا بداخلها .. هل حلمت بها طفلة أحملها فى صدرى .. وأشم رائحة الطفولة فى فمها الوردى .. أم أحببت روحاً تستند على وجودنا مقابل وجودها الجميل المستمر فى مشهد الحياة اليومى .. وجودها الذى يستدعى أرواح الجدات للبيت.

هل أحبتنى هى ولم تعترف. أم لا تعرفنى أصلاً. تعرف أربطة أحذيتى وتعرف أربطة عنقى - مشانقى الحريرية - وتشدهم منى فى الصباح وتتمسح فى قدمى حين تجوع كلما اقتربتُ من الثلاجة أو خزانة المطبخ. تموء لأفتح لها الصنبور وتموء كى أفتح لها الباب وتنام بجانبى أحيانا تنظر لى نظرات أفسرها أنا بالحب لكنها لم تقل لى صراحة أنها تحبنى.

قلت للطبيب بعد الإفاقة: "أليست جميلة" أجاب مقتضباً: "هى من ذوات الوجه القمرى وهى هجين من سلالات مختلفة" ثم وضعها فى قفص قائلاً: "أنتِ هنا حيوان أعجم فى طور النقاهة .. ستشرفيننا ثلاثة أيام" .. تبادلت معها النظر مخبّئين السر فى بطوننا وقالت لى: "خلِّ بالك .. سأعود لأرضعهم وأجلس كأسد قصر النيل على مسند الكنبة الحمراء ألعق شواربى وأَبْرُدُ مخالبى فى قماشها وأكر على صدر أمينة الدافئة إن شاء الله".



مسحوق لبن صناعى مذاب فى ماء مغلى ومُبرّد يُشفَط بسرنجة صغيرة ويُضَخ فى فم القطيطات الثلاث كل ساعتين. أثداء بلاستيكية ودفء مصطنع وابنتى ساهرة بعينين منهكتين والقطة البيضاء فى سجنها بالعيادة البيطرية مفتوحة البطن ممتلئة الأثداء تتلقى حقن المضاد الحيوى.



هل تعلمين أن قطة ثالثة ماتت.



صعدت أرواح القطيطات الثلاث إلى السماء كبالونات الهليوم والأم تنظر لهم فى بلاهة. تَبَقَّى لها اثنان تخاف عليهما وتنقلهما فى أرجاء البيت كل يوم. من أرفف خزانات الملبس إلى خزانة الأحذية ومن تحت حوض الغسيل إلى تحت السرير. لا تحس بالأمان بعد الذى جرى.



سحابة بيضاء حليقة البطن تمشى فى البيت بتؤدة وتوجس.



قطنة بيضاء تنام على جنبها و ندفتان من الثلج ترضعان من أثدائها.



زبد البحر وصوت العود وغناء صعيدى أخضر فى الأحلام ونسيم الصباح وصوت أمينة: "القطط فتحت عيونها".


2008
.

هناك ١٧ تعليقًا:

  1. أنا مش بأحب اسيب تعليقات
    بس حلوة قوي بجد

    ردحذف
  2. يا استاذ امين ياريت تقولي قصيدة ياسمينة بتاعت حضرتك الاقيها فين :)



    www.sotegy.blogspot.com

    ردحذف
  3. انا و لى لى بنحب القصة دى


    "هل أحببت قطة لا تحبنى .. أم أحببت إنساناً زرعته أنا بداخلها .. هل حلمت بها طفلة أحملها فى صدرى .. وأشم رائحة الطفولة فى فمها الوردى .. أم أحببت روحاً تستند على وجودنا مقابل وجودها الجميل المستمر فى مشهد الحياة اليومى .. وجودها الذى يستدعى أرواح الجدات للبيت"

    الجزء دا اكتر من رائع

    ردحذف